موضوع: الواجب التعیینی و التخییری
تاریخ جلسه : ١٤٠٤/٩/١٠
شماره جلسه : ۳۹
-
محصّلة البحث المتقدّم
-
تتمّةٌ حول مسلكِ تعلُّق الوجوب بالجامع الانتزاعيّ في الواجب التخييريّ
-
تحريرُ محلِّ النزاع
-
تقريبُ نظرية الجامع الانتزاعي
-
المراد بالجامع الانتزاعي وكيفية تعلّق الوجوب
-
التنظير بـ «العلم الإجمالي» وإمكان تعلّق التكليف بالعنوان المبهم
-
دفعُ توهّمِ «ذهنيّة» الجامع الانتزاعي
-
تحليلُ «العلم الإجمالي» كنموذجٍ لتعلّق الصفة الحقيقيّة بالمُبهَم
-
نتيجةُ التنظير: إمكان تعلّق الصفات الحقيقيّة، ومِن ثَمَّ التكليفِ الاعتباري، بالجامع الانتزاعي
-
خلاصة البحث: النسبة بين الواجب التعييني والتخييري في نظر المحقق الخوئي
-
موازنةٌ بينَ مسلكَي المحقِّق النائيني والمحقِّق الخوئي في الواجبِ التخييري
-
أ) نقطة الاشتراك
-
ب) نقطة الافتراق: مَصَبُّ تعلُّق الإرادة
-
١. مبنى المحقِّق النائيني: المُبهَم الخارجي
-
٢. مبنى المحقِّق الخوئي: الجامع الانتزاعي (المُبهَم الذهني المنطبق على الخارج)
-
نظريَّة السيِّد الإمام الخميني: التماثل الماهويّ للإرادة في الواجب التعييني والتخييري
-
تحرير محلِّ النزاع ودفع إشكالٍ مُقدَّر
-
جوابُ السيِّد الإمام: إراداتٌ وبعوثٌ متعدِّدةٌ متعيِّنة، يتخلَّلُها لفظُ «أو»
-
الفارقُ الثبوتيُّ بين الواجب التعييني والتخييري في منظور السيِّد الإمام
-
الاستغناءُ عن التحليلات الفلسفيَّة للغرض وعن قاعدة «الواحد»
-
خاتمةُ المطاف: تمايزُ نظريَّة السيِّد الإمام عن سائر المسالك
-
المصادر
-
محصّلة البحث المتقدّم
إنّ من المسالكِ الرئيسة في تحليل ماهيّة الواجب التخييريّ، النظريّةَ التي تبنّاها السيّد المحقّق الخوئي (قدّس سرّه)، والقائمةَ على أساس تعلُّق الوجوب - في باب الواجباتِ التخييريّة - بـ «الجامعِ الانتزاعيّ».[1] ويقع هذا المبنى في قبال وجهةِ نظر أستاذه المحقّقِ النائيني؛ إذ كان (قدّس سرّه) يرى أنّ تعلُّقَ الوجوبِ بالجامع الانتزاعيّ لا ينسجمُ مع الفهم العرفيّ، في حينِ يؤكِّدُ السيّد المحقّق الخوئي صراحةً على أنّ مقتضى الأدلّة والمتفاهَمَ العرفيّ ليس إلّا هذا التعلّقَ بعينه. وبتعبيره:
المستفاد من الأدلة بحسب المتفاهم العرفي هو ان متعلق الوجوب الجامع الانتزاعي.
يتّضح أساس التحليل الذي سَلَكه المحقق الخوئي (قدس سره) من خلال مثالٍ، حيث مثّل بالتخيير في خصال كفّارة صوم شهر رمضان:
و لتوضيح ذلك نأخذ مثالاً و هو ما إذا أوجب المولى إطعام ستين مسكيناً أو صوم شهرين متتابعين أو عتق رقبة مؤمنة، كما في كفارة صوم شهر رمضان... .
وفي مثل هذه الموارد، يرتكزُ السيّد الخوئي على عدّة نقاط:
۱- تعدّد أطراف الواجب: حيث جعل الشارع أفعالاً متباينة في عَرْضٍ واحد: الإطعام، الصوم، العتق. وهذا يكشف بنفسه عن أنَّ الغرض المولوي غير منحصر في خصوصية فردٍ معيَّن.
۲- عدم دخل الخصوصيات الفردية في الغرض: يصرّح المحقق الخوئي بأنَّ مقتضى التخيير هو أن لا يكون لشيء من الخصوصيات الشخصية لهذه الأطراف دَخلٌ في استيفاء الغرض؛ إذِ المفروضُ حصول الغرض بإتيان أيٍّ منها، وكما أفاد:
فلا محالة يكون مرد هذا إلى عدم دخل شيء من خصوصياتها في غرض المولى الداعي إلى الأمر بأحدها لفرض انه يحصل بإتيان كل منها في الخارج.
وبعبارة أخرى، لو كانت لخصوصيةٍ ما في أحد هذه الأفعال دخالة في تحقّق الغرض، لاستلزم ذلك جعلَ الوجوب عليه بنحو «الواجب التعييني»، لا في ضمن التخيير مع غيره.
۳- عدم تعيين طرفٍ خاص من قِبَل الشارع: ومن جهة أخرى، ورغم كفاية جميع هذه الأفعال في تحصيل غرض المولى، فإنَّ الشارع لم يُلزِم بأيٍّ منها على نحو التعيين؛ وكما عبّر (قدس سره):
و من جانب آخر المفروض ان الغرض لم يقم بكل واحد منها و إلا لكان كل منها واجباً تعيينياً، و من جانب ثالث ان وجوب أحدها المعين في الواقع لا يمكن بعد ما كان الجميع في الوفاء بغرض المولى على نسبة واحدة.
وخلاصة الكلام: لو كان الغرض قائماً بكل واحد من هذه الأفعال بخصوصه، لصار كل منها واجباً تعيينياً؛ ولو كان أحدها متعيّناً في الواقع، لما انسجم جعل التخيير بينها مع فرض «التساوي في تحصيل الغرض». ومن خلال ضمِّ هذه الجهات بعضها إلى بعض، يستنتج (قدس سره) ما نصه:
و نتيجة ذلك لا محالة هي وجوب الجامع بين هذه الأمور، و ان الغرض الداعي له يحصل بإتيانه في ضمن إيجاد أي فرد منها شاء المكلف إيجاده.
وعليه، فإن المولى في مقام الجعل إنما يحكم في الحقيقة على «الجامع» بين هذه الأفعال؛ ذلك الجامع المنطبق على كل طرف من الأطراف، من دون أن يكون لخصوصية أيٍّ منها دخالة في استيفاء الغرض. وقد صرّح المحقق الخوئي بأن «مردّ وجوب الجامع» في التحليل العقلي يؤول إلى نفي دخالة خصوصيات الأطراف في الغرض، حيث يقول:
لوضوح ان مرد وجوب الجامع بالتحليل إلى عدم دخل شيء من خصوصيات هذه الأمور، و ان الغرض المزبور يترتب على فعل كل منها في الخارج من دون خصوصية لهذا و ذاك أصلا.
وما ركّز عليه في ذيل كلامه هو أنَّ هذا النحو من التحليل ليس أمراً معقولاً في حدِّ ذاته فحسب، بل هو جارٍ وواقع في المحاورات العرفية والشرعية:
و هذا أمر معقول في نفسه، بل واقع في العرف و الشرع، فان غرض المولى إذا تعلق بأحد الفعلين أو الأفعال فلا محالة يأمر بالجامع بينهما و هو أحدهما لا بعينه، مع عدم ملاحظة خصوصية شيء منها.
بادئ ذي بدء، تصدّى المحقق الخوئي لدفعِ توهّمٍ يُثارُ حول الجامع الانتزاعي. وحاصلُ الإشكال: أنَّ الجامع الانتزاعي مفهومٌ ذهني، والأمر والتكليف لا يتعلّق بالأمور الذهنية. وقد أوضح (قدس سره) أنَّ المقصود من تعلّق الأمر بالجامع الانتزاعي، ليس تعلّقَه بـ «المفهوم المحض» بما هو موجود في وعاء النفس؛ وكما أفاد:
و من هنا يظهر ان مرادنا من تعلق الأمر بالجامع الانتزاعي ليس تعلقه به بما هو موجود في النّفس و لا يتعدى عن أفقها إلى أفق الخارج، ضرورة انه غير قابل لأن يتعلق به الأمر أصلا و ان يقوم به الغرض.[2]
ومفادُ ذلك: ليس مرادُنا أنَّ الأمر قد تعلّق بذلك المفهوم الذهني الحبيس في أفق النفس؛ إذ مثل هذا المفهوم لا قابليّة له لتعلّق البعث به، ولا يصلح لأن يكون محلاً لاستيفاء الغرض المولوي. وإنّما المقصود هو تعلّق الأمر بالجامع الانتزاعي بلحاظ انطباقه على الخارج؛ أي ذلك العنوان الذي يُنتزع من تساوي الأطراف في الوفاء بالغرض ويصدق على كل فرد منها، ويكون المكلّف هو الذي يمارس تطبيقه بإتيان أي مصداق شاء. وهو ما صرّح به بقوله:
بل مرادنا من تعلق الأمر به بما هو منطبق على كل واحد من الفعلين أو الأفعال في الخارج، و يكون تطبيقه على ما في الخارج بيد المكلف، فله ان يطبق على هذا، و له ان يطبق على ذاك.
وعليه؛ فإنّ الجامعَ الانتزاعي ـ بوصفه «أحدَها لا بعينه» ـ يقع متعلّقاً للأمر، من حيث انطباقُه على كل واحد من الأطراف خارجاً، مع أنّ تطبيقه على الأفراد موكولٌ إلى اختيار المكلّف. ويرى المحقّق الخوئي أنّ منشأ توهّم استحالة تعلّقِ الأمر بالجامع الانتزاعي، يكمن في الخلط بين النحوين من اللحاظ: اللحاظُ المفهوميّ الصِّرف و اللحاظُ المرآتيّ للخارج؛ حيث يقول:
و لعل منشأ تخيل انه لا يمكن تعلق الأمر بالجامع الانتزاعي هو تعلقه به على النحو الأول دون الثاني.
وبناءً على ذلك، فقد صرّح (قدس سره) بانتفاء أيِّ مانعٍ - سواءً من ناحيةِ«الأمر» ومقوّماته، أو من ناحية «الغرض» وملاكاتِه - يحولُ دونَ كونِ المأمور به هو العنوانَ الانتزاعي لـ «أحدها»؛ وكما جاء في نصّه:
بغيةَ تدعيمِ هذا المختار، استند المحقّق الخوئي (قدّس سرّه) إلى نموذجٍ من الصفات الحقيقيّة، ألا وهو «العلمُ الإجمالي». ومفاد كلامه:
أضف إلى ما ذكرناه انه يمكن تعلق الصفة الحقيقية بأحد أمرين أو أمور فما ظنك بالأمر الاعتباري.[3]
وتوضيح ذلك: في الموارد التي يحصل لنا فيها علمٌ إجمالي - كأن نعلم مثلاً بأنّ «أحدَ هذين الشخصين عادلٌ» - فما هو المتعلَّق لهذا العلم؟ وهل أنَّ «المعلوم بالإجمال» هنا متعيّنٌ أم لا؟ لقد تصدّى المحقّق الخوئي لتحليل صور الواقع المحتملة في هذا المثال:
الفرضُ الأوّل: أن يكون كلا الشخصين عادلاً في الواقع. ففي هذه الحالة، قد تعلّق علمُنا إجمالاً بـ «عدالةِ أحدهما»، والحالُ أنَّ العدالةَ متحقّقةٌ وواسعةٌ لكليهما. وهنا يُصرّح (قدس سره):
ففي مثل ذلك لا تعين للمعلوم بالإجمال حتى في علم اللّٰه، ضرورة انه لا واقع له غير هذا المفهوم المنتزع، فلا يمكن ان يقال ان المعلوم بالإجمال عدالة هذا دون عدالة ذاك أو بالعكس لفرض ان نسبة المعلوم بالإجمال إلى كل واحد منهما على حد سواء.
وهذا يعني أنّه لا تعيّنَ في نفس المعلوم بالإجمال؛ إذ ليس له واقعٌ سوى هذا «المفهوم الانتزاعي» (عنوان أحدهما)؛ ونسبة هذا المعلوم إلى كلّ واحدٍ من الشخصين على حدّ سواء. ومن هنا، فإنّه حتّى في علم الله تعالى، لم يُفترَض للمعلوم بالإجمال تعيّنٌ زائدٌ على هذا المفهوم الانتزاعي.[4]
الفرضُ الثاني: أن يكون أحدهما ـ فقط ـ عادلاً في الواقع. في هذا الفرض، وعلى الرغم من أنّ العدالة في الخارج قائمةٌ بفردٍ معيّن، والله تعالى عالمٌ بذلك تفصيلاً، فإنّ المعلوم بالإجمال لدى المكلّف لا يزال هو عنوانَ «أحدهما»، لا عدالةَ الفردِ المعيّن. ويقول المحقّق الخوئي في ذلك:
و اما فيما إذا فرض ان أحدهما عادل في الواقع و علم اللّٰه دون الآخر ففي مثل ذلك أيضاً لا تعين له، ضرورة ان العلم الإجمالي لم يتعلق بعدالة خصوص هذا العادل في الواقع، و إلا لكان علماً تفصيلياً و هذا خلف، بل تعلق بعدالة أحدهما.
إذن؛ فحقيقة العلم الإجمالي تتقوّم بتعلّق العلم بعنوان «أحدهما». ومن الواضح أنّ هذا العنوان:
ليس لعنوان أحدهما واقع موضوعي و تعين في عالم الخارج، بل هو مفهوم انتزاعي في عالم النّفس، و لا يتعدى عن أفق النّفس إلى ما في الخارج، و له تعيّن في ذلك العالم، لا في عالم الواقع و الخارج.
وبعبارة أخرى: إنّ عنوان «أحدهما» لا يَمتلك ذاتاً مستقلّةً ومتعيّنةً في الخارج، بل هو محضُ مفهومٍ انتزاعي في أفق النفس؛ وتعيّنُه مقصورٌ على ذلك الأفق النفساني، لا في عالم الخارج. ومن هنا يستنتج (قدّس سرّه) أنّ متعلّق العلم الإجمالي هو هذا المفهومُ الانتزاعي بعينه، لا الفردُ الخارجي المتعيّن؛ إذ يقول:
و من المعلوم ان متعلق العلم هو ذلك المفهوم الانتزاعي لا ما ينطبق عليه هذا المفهوم، لفرض انه متعين في الواقع و علم اللّه و العلم لم يتعلق به، و إلا لكان علماً تفصيلياً لا إجمالياً.
وقد ذكّر المحقّقُ الخوئي بهذه النكتة على نحو القاعدة الكليّة، قائلاً:
و بكلمة واضحة انا قد ذكرنا في محله انه لا واقع و لا تعين للمعلوم بالإجمال مطلقاً.
ومن خلالِ التحليلِ المتقدّم، استخلص المحقّق الخوئي النتيجةَ التالية بوضوح:
فالنتيجة قد أصبحت من ذلك انه لا مانع من تعلق الصفات الحقيقية كالعلم و الإرادة و ما شاكلهما بالجامع الانتزاعي الّذي ليس له واقع ما عدا نفسه فضلا عن الأمر الاعتباري.[5]
وعلى ضوء مجموع ما تقدم، يلخّص السيد المحقق الخوئي (قدس سره) - في ختام هذا المبحث - طبيعة النسبة بين الواجب التعييني والواجب التخييري بالنحو التالي:
و من هنا يتبين انه لا فرق بين الواجب التعييني و الواجب التخييري إلا في نقطة واحدة، و هي ان متعلق الوجوب في الواجبات التعيينية الطبيعة المتأصّلة كالصلاة و الصوم و الحج و ما شاكلهما، و في الواجبات التخييرية الطبيعة المنتزعة كعنوان أحدهما، و اما من نقاط أخرى فلا فرق بينهما أصلا، فكما ان التطبيق في الواجبات التعيينية بيد المكلف، فكذلك التطبيق في الواجبات التخييرية، و كما ان متعلق الأمر في الواجبات التعيينية ليس هو الأفراد، كذلك متعلق الأمر في الواجبات التخييرية.[6]
وعليه، فبناءً على مختار المحقِّق الخوئي:
۱- في الواجب التعييني: يكونُ متعلَّقُ الوجوب هو «الطبيعة المتأصِّلة» (كالصلاة، والصوم، والحج). وهذه الطبيعة بما هي أمرٌ كليّ، تتحقَّق خارجاً في ضمن الأفراد، ويكون تطبيقها على الفرد الخاص موكولاً إلى اختيار المكلَّف؛ فالأمر لم يتعلَّق بالأفراد، بل انصبَّ على ذات الطبيعة المتأصِّلة.
وفي المقابل، تبنَّى المحقِّق الخوئي صراحةً تعلُّق الأمر والإرادة بـ «الجامع الانتزاعي». فهو يرى أنَّ متعلَّق الوجوب والإرادة في الواجب التخييري هو العنوان الانتزاعي لـ «أحدِهما»؛ ذلك العنوان الذي: هو في أفق النفس مفهومٌ انتزاعي ومُبهَم؛ وليس له في عالم الخارج واقعٌ وتعيُّنٌ سوى مصاديقه؛ وقد تعلَّقت الإرادة به «بما هو منطبقٌ على كلِّ واحدٍ من الفعلين أو الأفعال في الخارج»، لا بما هو موجودٌ في النفس محضاً. ولهذا يصرِّح المحقِّق الخوئي بوضوحٍ بأنَّ المراد من تعلُّق الأمر بالجامع الانتزاعي ليس تعلُّقه بالمفهوم الذهني الصِرف، بل: إنَّ الأمر والإرادة يتعلَّقان بـ «عنوان أحدِهما»؛ وهذا العنوان، وإن كان في النفس مفهوماً انتزاعيّاً، إلَّا أنَّ لحاظه إنَّما هو من جهة انطباقه على كلِّ واحدٍ من الأطراف في الخارج؛ ويكون تطبيق هذا العنوان على الفرد الخاص موكولاً إلى اختيار المكلَّف («فله أن يطبِّق على هذا أو على ذاك»). وعليه، ففي مسلك المحقِّق الخوئي، يكون «المُبهَم» في الرتبة الأولى مفهوماً انتزاعيّاً ذهنيّاً (الجامع الانتزاعي)، وإن كان تمام دوره في مقام التكليف يتحقَّق بواسطة انطباقه على الخارج؛ أي أنَّ «المُبهَم الذهني بما هو مشيرٌ إلى الخارج» يقع متعلَّقاً للإرادة، لا «المُبهَم الخارجي بما هو خارجي».
خلاصة التمايز الفنِّي: وعلى ضوء ما تقدَّم، يمكن تلخيص التمايز الدقيق بين المسلكين على النحو التالي: في مسلك المحقِّق النائيني، وقَع القبول بأصل تعلُّق الإرادة بـ «الأمر المُبهَم» في الواجب التخييري. ولكنَّ مَصَبّ هذا الإبهام هو الخارج: فالإرادة تتعلَّق بـ «المُبهَم الخارجي» (أحدهما في الخارج). وقد أُنكِر تعلُّق الوجوب والإرادة بـ «الجامع الانتزاعي» كمفهومٍ ذهني، ونُفِيَت صلاحيَّته لتعلُّق التكليف.
يستهلُّ السيِّد الإمام الخميني بحثه من هذه النقطة، وهي: أنَّ تحقُّق ما يكون ظاهره الوجوب التخييري في الشرع والعرف، هو أمرٌ مفروغٌ عنه ومقبولٌ بلا ريب؛ حيث قال:
لا إشكال في وقوع ما هو بظاهره الواجب التخييري في الشرع و العرف.
وينصبُّ البحث على الإمكان الثبوتي لمثل هذا الوجوب: هل يمكن ثبوتاً قَبول الواجب التخييري وفقاً للظهور الأوَّلي للأدلَّة، أم لابدَّ من التصرُّف في هذا الظهور والمصير إلى مسالك أخرى؛ كإرجاع التكليف إلى الجامع التعييني (وحمل التخيير على التخيير العقلي)، أو إلى الجامع الانتزاعي، أو غير ذلك؟ وقد قرَّر السيِّد الإمام الإشكال الثبوتيّ على النحو التالي: أوَّلاً، إنَّ الإرادة (التكوينيَّة والتشريعيَّة) تُعَدُّ من الصفات الحقيقيَّة ذات الإضافة، ولا تتحقَّق من دون مضافٍ إليه موجود. ثانياً، إنَّ الوجود - أيَّ وجودٍ فُرِض، سواء كان خارجيّاً أم ذهنيّاً - يُساوق التشخُّص والتعيُّن. ثالثاً، إنَّ التردُّد النفس الأمري لا ينسجم مع الموجوديَّة والتشخُّص. وعليه، فلو افتُرِض في الواجب التخييري أنَّ إرادة المولى أو متعلَّقها مردَّدٌ ومُبهَمٌ واقعاً بين أطرافٍ متعدِّدة، لَلَزِم من ذلك «التردُّد في الموجود المتشخِّص»، وهو محال:
الوجود ـ أيّ وجود كان ـ مساوق للتشخّص و التعيّن الواقعيّ، و التردّد النَّفس الأمريّ مضادّ للموجوديّة... و لا إشكال في أنّ الإرادة... من الأوصاف الحقيقيّة ذات الإضافة... فلا يعقل أن تكون الإرادة بحسب نفس الأمر مردّدة التعلّق، و لا متعلّقها كذلك... .
وفي مقام الرد، يمنعُ السيِّد الإمام (قدس سره) أصلَ لزوم الإبهام والتردُّد الواقعي، مصرِّحاً:
و فيه: منع لزوم ما ذكر من الإبهام و التردّد الواقعيّ في شيء من المذكورات.
وتقريبُ جوابه كالتالي: إذا رأى المولى في فعلٍ أو أفعالٍ مصلحةً ملزمةً، بحيث يكون كلُّ واحدٍ من هذه الأفعال وافياً بغرضه منفرداً، وفي الوقت ذاته لم يوجَد جامعٌ بينها صالحٌ لأن يتعلَّق به الأمر؛ فإنَّ السبيلَ المعقول والعرفي لتحصيل غرضه هو أن يعمدَ إلى جعلِ إرادةٍ تامَّةٍ وبعثٍ مستقلٍّ بالنسبة إلى كلِّ واحدٍ من هذه الأفعال بخصوصه؛ وفي مقام البيان، يُقحِمُ (يجعلُ) بينَ هذين البعثين (أو البعوث) لفظةَ «أو» أو ما يعادلها؛ ليُفهِمَ المخاطَبَ بأنَّ كلَّ واحدٍ من هذه الأفعال محصِّلٌ لغرضه بالاستقلال، ولكنَّ الجمعَ بينها غيرُ لازم:
فلا محالة يتوسّل لتحصيل غرضه بهذا النحو بإرادة بعث متعلّق بهذا و إرادة بعث آخر متعلّق بذاك، مع تخلّل لفظة «أو» و ما في معناها بينهما، لإفهام أنّ كلّ واحد منهما محصّل لغرضه، و لا يلزم الجمع بينهما.
وبناءً عليه، ففي عالم الثبوت:
هاهنا إرادة متعلّقة بمراد، و بعث متعلّق بمبعوث إليه، كلّها معيّنات مشخّصات لا إبهام في شيء منها، و إرادة أخرى متعلّقة بمراد آخر، و بعث آخر إلى مبعوث إليه آخر، كلّها معيّنات مشخّصات، و بتخلّل كلمة «أو»... يُرشد المأمور إلى ما هو مراده، و هو إتيان المأمور بهذا أو ذاك.
ووفقاً لهذا البيان: أولاً، لا وجودَ لأيِّ إبهامٍ نفسِ أمري، لا في الإراداتِ ذاتها ولا في مراداتِها، ولا في البعوث ولا في المبعوث إليها. ثانياً، إنَّ حقيقةَ الواجبِ التخييري ليست إرادةً مُبهَمة، ولا مُبهَماً خارجياً، ولا سنخاً جديداً من الوجوب. ومن هنا، يستنتج السيِّد الإمام بصراحة:
و بالضرورة ليس في شيء من الإرادة و المراد و غيرهما إبهام بحسب الواقع و نفس الأمر... فلا تكون الإرادة في الواجب التعييني و التخييري سنخين، و لا البعث و الواجب.
بناءً على هذه المقدِّمة، يقرِّرُ السيِّد الإمام الخميني الفارقَ الثبوتي بين القسمين كالتالي: في الواجب التعييني، يكونُ الفعلُ الواحد المتعلَّقُ للبعث، هو «بنفسه محصِّلاً للغرض ليس إلّا»؛ فالبعثُ صادرٌ بنحوٍ واحد ومتعلِّقٌ بفعلٍ معيَّن، من دون أن يُجعَلَ إلى جنبه بعثٌ آخرُ بالنسبة إلى فعلٍ مغاير. أما في الواجب التخييري، فإنَّ كلَّ واحدٍ من الأطراف - من ناحية المولى - إما أن يكونَ محصِّلاً لنفس الغرض الواحد باستقلال؛ وإما أن يكونَ محصِّلاً لغرضٍ مستقل، إلّا أنَّ حصولَ أحدهما يُعدِمُ موضوعَ الآخر. وفي كلتا الحالتين، يعمدُ المولى - بغيةَ تأمينِ غرضه - إلى جعلِ بعثينِ متعلِّقينِ بفعلين، مع تخلُّلِ أداةِ «أو» في مقام البيان. وكما جاء في نصِّ عبارته:
لكنّ الفرق بينهما بحسب الثبوت هو كون الواجب التعييني بنفسه محصّلا للغرض ليس إلاّ، بخلاف التخييري... و يكون البعث في التعييني متعلّقا بشيء بلا تعلّقه بشيء آخر، و في التخييري يكون بعثان متعلّقان بشيئين مع تخلّلهما بما يفيد معنى التخيير في إتيانه.
ثم يضيفُ (قدس سره):
و يمكن أن يكون كلّ من الطرفين في التخييري محصّلا لغرض غير الآخر، لكن يكون حصول كلّ غرض هادما لموضوع الآخر، فيتوسّل المولى إلى حصول غرضه بما ذكر.
وثمَّةَ نكتةٌ محوريَّةٌ أخرى في مبنى السيِّد الإمام، وهي: نقد إقحام المباحث الفلسفيَّة - كتحليل «الأغراض والملاكات» وقاعدة «الواحد لا يصدر منه إلّا الواحد» - في صميم تعريفِ الواجب وتقسيماته. حيثُ يصرِّح (قدس سره) قائلاً:
ثمّ ليعلم: أنّ تقسيم الواجب إلى التعييني و التخييري كتقسيمه إلى النفسيّ و الغيري، إنّما هو بلحاظ البعث المنتزع منه الوجوب.
ومفادُ ذلك: أنَّهُ كما أنَّ تقسيمَ الواجب إلى نفسي وغيري، ناظرٌ إلى حيثيَّةِ «البعث»؛ فكذلك تقسيمُهُ إلى تعييني وتخييري، إنّما يتمُّ من هذه الحيثيَّة فحسب. ومن هنا، يرتِّب النتيجةَ التالية:
فحديث الأغراض و المصالح الواقعيّة و محصّلها و لزوم صدور الواحد عن الواحد ـ على فرض صحّته في أمثال المقام ـ أجنبيّ عن محطّ التقسيم.
بمعنى: أنّ البحث عمَّا إذا كان الغرض واحداً أو متعدِّداً؛ وعمَّا إذا كان الواحد لا يصدر إلا من الواحد أو يمكن صدوره من الكثير؛ كلُّ هذه المباحث - في أقصى تقدير - إنّما تُطرح في الساحة الفلسفيَّة وفي مقام تحليل واقع الملاكات. وهي بذلك أجنبيَّةٌ تماماً عن «محطِّ تقسيم الواجب إلى تعييني وتخييري»؛ الذي هو أمرٌ اعتباريٌّ ناظرٌ إلى حيثيَّةِ البعث والخطاب. ولهذا، وخلافاً لتحليل الآخوند الخراساني - الذي ابتنى ماهيَّةَ الواجب التخييري على أساس وحدة الغرض وتعدُّده ونسبتِهِ لقاعدة «الواحد» - فإنَّ السيِّد الإمام يرى خروجَ أمثالِ هذه التحليلات عن جوهرِ بحث الواجب التخييري. فالتقسيمُ إلى تعييني وتخييري - كالتقسيم إلى نفسي وغيري - ناظرٌ صِرفاً إلى «صورةِ الجعل» و«كيفيَّةِ البعث»، لا إلى واقع الأغراض والملاكات.
تأسيساً على ما سلف، يمكنُ رسمُ الخطوط العامَّة لنظريَّة السيِّد الإمام الخميني في الواجب التخييري كما يلي:
۱. وحدةُ سنخِ الإرادة والوجوب: إنَّ الإرادة والبعث في كلٍّ من الواجب التعييني والتخييري هما من حقيقةٍ واحدةٍ وسنخٍ فارد؛ ففي كليهما تتحقَّق إرادة تامَّة وبعثٌ كامل، ولا يُفترض وجود أيّ نحوٍ من «الوجوب الناقص»، أو «الإرادة المُبهَمة»، أو «السنخِ الخاصّ من الوجوب».
۲. تعدّد الإرادات والبعوث في الواجب التخييري: في الواجب التخييري، توجد إرادة مستقلَّة وبعث مستقلّ بالنسبة إلى كلّ واحدٍ من الأطراف (كالعتق، والإطعام، والصوم)، متعلِّقاً بفعل معيّن. وهذه كلُّها «معيّنات مشخَّصات»، ولا سبيلَ للإبهام إلى أيٍّ منها.
٣. دورُ أداة «أو» في مقام البيان: إنَّ أدواتِ التخيير - كلفظة «أو» - لا تُسهِم في إيجاد سنخ جديدٍ من الإرادة أو الوجوب؛ بل ينحصر دورُها - في مقام البيان - في إفهام المكلَّف أمرين: أ) أنّ كلّ واحدٍ من هذه الأطراف، محصِّلٌ لغرض المولى بمفرده. ب) أنّ الجمع بين الأطراف غيرُ لازم، وأنّ اختيار التعيين بيد المكلَّف.
٤. الاستغناءُ عن الجامع الانتزاعي والإرادة المُبهَمة: بما أنّ متعلَّقاتِ الإرادة والبعث - وفقَ هذا التحليل - هي بتمامها أفعال معيَّنة، وأنَّ التخيير يحصل عبر تعدُّد البعث وتخلُّل «أو» في الخطاب؛ فلا تعود ثمّةَ حاجةٌ لافتراض الجامع الانتزاعي (عنوان أحدهما) أو الإرادةِ المُبهَمة وما شاكلَ ذلك. وكذا الحالُ بالنسبة للمباحث المعقَّدة المرتبطة بوحدة الغرض وتعدُّده وقاعدةِ «الواحد»؛ حيث تخرج جميعها عن صُلب البحث. وبهذا التقرير: تقوم نظريَّة السيِّد الإمام بحلّ العُقَد المستعصية التي نشأت عن تحليل الواجب التخييري على أساس الإرادة المُبهَمة، أو الجامعِ الانتزاعي، أو الوجوب الناقص، أو السنخ الخاص. وذلك بالرجوع إلى تحليلٍ عرفي واعتباري دقيق ومبسَّط لحقيقة البعث والإرادة؛ فتُقدِّم الواجبَ التخييريّ بوصفه مُضاهياً للواجب التعييني في الماهيّة، ومتكثّراً ومقيَّداً بأداة التخيير في كيفيّة الجعل والبيان.
و صلّی اللّه علی محمّد و آله الطّاهرین
--------------------------
[1]- خویی، ابوالقاسم، «محاضرات فی أصول الفقه»، با محمد اسحاق فیاض، ج 4، ص 40-44.
[2]- المصدر نفسه، 42.
[3]- المصدر نفسه، 43.
[4]- تنبيهٌ: إنَّ مقصوده (قدس سره) ليس نفي العلم التفصيلي للباري تعالى بالواقع، بل هو نفي التعيُّن عن «عنوان المعلوم بالإجمال»؛ لا نفي تعيُّن الواقع الخارجي.
[5]- المصدر نفسه، 43.
[6]- المصدر نفسه، 43-44.
[7]- خمینی، روح الله، «مناهج الوصول إلى علم الأصول»، ج 2، ص 85-88.
[8]- وإن لم يَرِد التصريحُ بنفي الجامع الانتزاعي في متن «المناهج»، إلّا أنَّ هذا الاستظهار العرفيّ ممّا يمكن استفادته من مجموع تقرير السيِّد الإمام، ولا سيَّما في ذيل مناقشته للتوجيهات المبتنيَة على الجامع.
[9]- وإن كان مبنى «الخطابات القانونيَّة» يُعَدُّ من مختصّات السيِّد الإمام في الأصول، إلَّا أنَّه لم يَرِد تصريحٌ مستقلٌّ به في هذا الشطر من «المناهج»؛ بل هو قابلٌ للجمع مع هذا المبنى والتقوية به.
المصادر:
- خمینی، روح الله، مناهج الوصول إلى علم الأصول، قم، موسسه تنظيم و نشر آثار امام خميني( ره)، 1415.
نظری ثبت نشده است .