درس بعد

الواجب التعیینی و التخییری

درس قبل

الواجب التعیینی و التخییری

درس بعد

درس قبل

موضوع: الواجب التعیینی و التخییری


تاریخ جلسه : ١٤٠٤/٩/٩


شماره جلسه : ۳۸

PDF درس صوت درس
خلاصة الدرس
  • محصّلة البحث المتقدّم

  • تنبيه: الثمرات الفقهيّة والأصوليّة لبحث الواجب التخييري

  • ١. تحديدُ المعيار في باب الطاعة والعصيان

  • ٢. الثمرةُ الفقهيّة: كيفيّةُ امتثال أطراف الواجب التخييري

  • نظريّة المحقّق النائيني: مسلك «الفرد المردّد»

  • ١. التفكيكُ بين «إرادة الفاعل» و«إرادة الآمر»

  • ٢. التحليلُ المبتني على تأمين الغرض

  • ٣. الاستشهادُ بالأوامر العرفيّة وإبطالُ نظريّة «الجامع»

  • ٤. النتيجة: السنخيّةُ الخاصّة للإرادة

  • نظريّة السيّد الخوئي: مسلك «الجامع الانتزاعي (أحدهما)»

  • ١. ماهيّة الواجب: عنوان «أحدهما لا بعينه»

  • ٢. عمليّة التطبيق: هيكليّةٌ تُحاكي الواجب التعييني

  • الدفاعُ عن النظريّة: دفعُ إشكال «عدم واقعيّة العنوان الانتزاعي»

  • الإشكالُ الثاني: تحدّي «انتفاء الملاك في العنوان الانتزاعي»

  • جوابُ السيّد الخوئي: تحليلٌ ثلاثيُّ الأبعاد

  • المناقشة في جواب السيّد الخوئي: عدولٌ عن مبنى تبعيّة الأحكام للمصالح

  • المصادر

الجلسات الاخرى
بِسمِ اللَّهِ الرَّحمَنِ الرَّحِیم
الحمدللّه ربّ العالمین وصلّی اللّه علی محمّد و آله الطّاهرین

محصّلة البحث المتقدّم

انعقد البحث الماضي لتلخيص ونقد نظريّة المحقّق العراقي (قدّس سرّه) حول الواجب التخييري. فبعد استعراض أركان نظريّته المبتنية على تفسير الواجب التخييري بـ «الوجوب الناقص» والالتزام بتعدّد العقاب عند ترك جميع الأطراف (في فرض تعدّد الغرض)، أُشير إلى تباين هذا المبنى في جانب الثواب؛ حيث إنّ الإتيان بجميع الأطراف لا يستلزم بالضرورة تعدّد الثواب، لسقوط الوجوب عن البواقي بامتثال الفرد الأوّل. ثمّ واجهت نظريّتُه ثلاثة إشكالاتٍ رئيسة. ١- الإشكال الثبوتي: حيث أوضحنا ـ استناداً إلى مباني الإمام الخميني (قدس سره) ولزوم التفكيك بين الأحكام التكوينيّة والاعتباريّة ـ أنّ مفاهيم كـ «النقص» و«التشكيك» مختصّةٌ بعالم الوجود، ولا سبيل لها إلى عالم الاعتبار الدائر بين الوجود والعدم؛ وعليه، فإنّ تصوير «الوجوب الناقص» ممتنعٌ منطقيّاً. ٢- نقد مبنى العقاب: إذ الحُكم بتعدّد العقاب، مخالفٌ أوّلاً للمرتكز العقلائي (كما في خصال الكفّارة)، ومبتنٍ ثانياً على الخلط بين «الخطاب» و«الغرض». فمعيار العقوبة هو مخالفة الخطاب لا تفويت الغرض؛ وبما أنّ الخطاب في الواجب التخييري واحدٌ (ولو بدليّاً)، فلا يُتصوّر أكثر من عقابٍ واحد. ٣- تحليل سقوط التكليف: فخلافاً لتصوّر المحقّق العراقي، لا يُعدّ فعل المكلّف وحده علّةً لسقوط الوجوب عن سائر الأطراف (لانتفاء رابطة العليّة التكوينيّة)، بل المُسقِط الحقيقي هو ترخيص الشارع وكيفيّة الجعل البدليّ، الذي جعل إتيانَ فردٍ مّا موضوعاً لعدم إلزام الباقي.

تنبيه: الثمرات الفقهيّة والأصوليّة لبحث الواجب التخييري

وقبل المضيّ في البحث، يجدر بنا الإجابة عن تساؤلٍ مقدّر. فقد توهّم البعض أنّ النزاع في حقيقة الواجب التخييري، بحثٌ علميٌّ تجريديٌّ محض، لا يثمر ثمرةً فقهيّةً ملموسة، ولا تظهر نتائجه إلّا في الدار الآخرة (من حيث الثواب والعقاب) وله آثارٌ كلاميّةٌ فحسب. بيد أنّ التأمّل في زوايا البحث يكشف عن عدم تماميّة هذا التوهّم، وأنّ للمسألة آثاراً أصوليّةً وفقهيّةً هامّة، ذاتَ دخلٍ مباشرٍ في كيفيّة عمل المكلّف.

١. تحديدُ المعيار في باب الطاعة والعصيان

تتمثّل الثمرة الأولى في تنقيح المبنى في باب «ملاك الطاعة والمعصية». وكما مرّ في نقد نظريّة المحقّق العراقي، فإنّ ثمّة اتجاهين رئيسين في المقام:

- المبنى الأوّل: إنّ معيار حكم العقل بلزوم الإطاعة واستحقاق العقاب، هو الموافقة والمخالفة لـ «غرض» المولى.

- المبنى الثاني: إنّ المعيار هو الموافقة والمخالفة لـ «خطاب» المولى و«تكليفه».

وتشخيصُ وتعيينُ أيٍّ من هذين المبنيين يقع على عاتق علم الأصول؛ واختيارُ أحدهما يستتبع نتائج مختلفةً في أبواب الفقه المتنوّعة (كالتجرّي، والانقياد، والتزاحم).

٢. الثمرةُ الفقهيّة: كيفيّةُ امتثال أطراف الواجب التخييري

وتظهر الثمرةُ الثانية ـ ولعلّها الأهمّ ـ حين الإتيان بأطرافٍ متعدّدة. وهذا الأثر يتفرّع مباشرةً عن اتّخاذ المبنى في بحث «وحدة الوجوب أو تعدّده»:

فعلى مبنى وحدة الوجوب: إذا التزمنا بأنّه لا يوجد في الواجب التخييري إلا «وجوبٌ واحد» (متعلّقٌ بالجامع أو العنوان الانتزاعي)، فالنتيجة هي إمكان تحقّق «امتثالٍ واحد» فحسب. ففي هذا الفرض، لو أتى المكلّف بأحد الأطراف (كعتق الرقبة مثلاً)، لحصل الغرض وسقط الوجوب الواحد. وحينئذٍ، لو أراد الإتيان بالأطراف الأُخرى (كالإطعام)، لم يتأتَّ له قصدُ «امتثال الأمر الواجب»؛ لعدم بقاء أمرٍ حينئذ. وإنّما يُمكنه الإتيان بذلك العمل بملاك المحبوبيّة الذاتيّة وقصد «القربة المطلق»، لا بعنوان أداء التكليف.

وعلى مبنى تعدّد الوجوب: أمّا لو ذهبنا إلى «تعدّد الوجوب» وانحلاله (بمعنى توجّه انبعاثاتٍ ووجوباتٍ متعدّدة نحو الأطراف على سبيل البدليّة)، فسيُفتح بابُ «الامتثالات المتعدّدة». فوفقاً لهذه الرؤية، حتّى بعد الإتيان بالفرد الأوّل، يسعُ المكلّفَ الإتيانُ بسائر الأطراف بقصد «امتثال الأمر» (مع لحاظ خصوصيّات الأمر التخييري طبعاً)، ويستحقّ لكلٍّ منها ثوابَ امتثالٍ مستقلّ. ويكشفُ تتبّعُ المسار التاريخي للبحث أنّ معظم أساطين الأصول (كالشيخ الأنصاري، والآخوند الخراساني، والمحقّق النائيني، والمحقّق الأصفهاني قدّس سرّهم) ـ رغم اختلافهم في التصوير الفنّي ـ قد جنحوا في نهاية المطاف إلى نوعٍ من «وحدة الوجوب» في الواجب التخييري. وفي المقابل، ذهب الإمام الخميني (رضوان الله عليه) ـ بمنهجيّةٍ مغايرة ـ إلى «تعدّد الوجوب» وانحلاله الحقيقيّ. وهذا المبنى لا يقلب هيكليّة البحث فحسب، بل يستتبع الثمرات الفقهيّة الآنفة الذكر (إمكان تعدّد الامتثال)، والتي ستتّضح أبعادها عند تبيين نظريّته. وعليه، فإنّ بحث الواجب التخييري بحثٌ مفتاحيٌّ لتعيين «وظيفة المكلّف في مقام النيّة والعمل».

نظريّة المحقّق النائيني: مسلك «الفرد المردّد»

بعد استعراض الآراء والنظريّات الرئيسة في باب الواجب التخييري، تحين النوبة الآن لتمحيص رؤية المحقّق النائيني (قدّس سرّه). وتتمحور نقطة النزاع في هذه النظريّة حول حلّ معضلة «تعلّق الإرادة بالأمر المبهم والمردّد». حيث سعى المحقّق النائيني ـ عبر تقديم تحليلٍ لحقيقة الإرادة ـ إلى إثبات الإمكان العقليّ للواجب التخييري، من دون حاجةٍ لإرجاعه إلى «الجامع الانتزاعي» أو «الوجوب الناقص». ويمكن صياغة أركان نظريّة الميرزا النائيني ضمن محاور أربعة رئيسة:

١. التفكيكُ بين «إرادة الفاعل» و«إرادة الآمر»

يتمثّل الركن الركين في رؤيته، في التمييز بين سنخين من الإرادة:

أ) الإرادة الفاعليّة (الإرادة المباشرة): وهي إرادة الشخص الذي يروم إتيان فعلٍ ما بنفسه. وهذه الإرادة حيث كانت مقدّمةً لـ «تحريك العضلات»، وبما أنّ الحركة الخارجيّة لا تتأتّى إلا نحو أمرٍ متعيّنٍ ومشخّص، فلا بدّ أن يكون متعلّق إرادة الفاعل «متعيّناً» وجزئيّاً بالضرورة. فمن المحال أن يريد الإنسان فعل «شيءٍ ما (مردّد)» فتتحرّك عضلاته بلا تعيينٍ للوجهة.

ب) الإرادة الآمريّة (الإرادة التشريعيّة): وأمّا إرادة المولى الآمر، فليست من سنخ التحريك المباشر للعضلات، بل هي من سنخ «البعث» و«جعل الداعي». وفي هذا المجال، لا يوجد أيّ مانعٍ عقليٍّ من أن تتعلّق إرادة الآمر بتحقّق «أحد هذه الأشياء (على نحو البدليّة)» في الخارج. وقد صرّح قائلاً:

لا مانع من تعلّق إرادة الآمر بکلّ واحدٍ من الشّیئین أو الأشیاء على وجه البدلیّة.[1]

وعليه، فإنّ قياس الإرادة التشريعيّة على الإرادة التكوينيّة قياسٌ مع الفارق.

٢. التحليلُ المبتني على تأمين الغرض

وتعزيزاً لاستدلاله، يرجع المحقّق النائيني إلى جذر الحكم، أي «الغرض». فالمولى في مقام الآمريّة، تابعٌ للمصالح والأغراض: فإن كان غرضه لا يتحقّق إلا بفعلٍ خاصّ، كانت إرادته «تعيينيّة». وأمّا لو كان الغرض بنحوٍ يُستوفى تماماً بإتيان أيّ واحدٍ من الأطراف (كخصال الكفّارة)، فهنا يحكم العقل بأنّ تعيين طرفٍ بخصوصه من قِبَل المولى يُعدّ «ترجيحاً بلا مرجّح»؛ بل مقتضى الحكمة تعلّق الإرادة بذوات الأطراف جميعاً، لكن بقيد «البدليّة» (على وجه البدليّة). ففي هذا الفرض، أُوكِل تعيين المصداق في مرحلة الامتثال إلى «اختيار المكلّف»، لا في مرحلة إرادة الآمر.

٣. الاستشهادُ بالأوامر العرفيّة وإبطالُ نظريّة «الجامع»

ويستند (قدّس سرّه) لتأييد مدّعاه إلى المرتكزات العرفيّة. ففي الأوامر اليوميّة، كثيراً ما يأمر المولى: «هيّئ لي واحداً من هذه الأنواع من الطعام». والمفهوم عرفاً أنّ متعلّق طلب المولى هو نفس الواقعيّة الخارجيّة للخبز أو الأرز، لا «عنوانٌ انتزاعيٌّ ذهنيّ» يسمّى «أحدهما». وهذه النقطة بالذات، تشكّل الحدّ الفاصل بين نظريّة النائيني ونظريّة «الجامع الانتزاعي» (مختار الآخوند في وحدة الغرض). إذ يرى المحقّق النائيني أنّه حتّى في صورة وحدة الغرض، لا يتعلّق الوجوب بـ «الجامع»؛ لعدم لحاظ عنوان الجامع في مرتكز الآمر والمأمور، بل إنّ متعلّق الإرادة هو ذات الحقائق الخارجيّة التي وقعت موضوعاً للحكم على نحو البدليّة.

٤. النتيجة: السنخيّةُ الخاصّة للإرادة

ويخلص في النهاية إلى القول بأنّنا نواجه في الواجب التخييري سنخاً خاصّاً من الإرادة. وهذه الإرادة تقابل الإرادة المطلقة المتعلّقة بالشيء المعيّن (الواجب التعييني)، وتمتاز عنها بـ «البدليّة في المتعلَّق». وقد أفاد في تقرير نظريّته قائلاً:

و حاصله: انّه لا مانع من تعلّق إرادة الآمر بكلّ واحد من الشّيئين أو الأشياء على وجه البدليّة... و لا يلزم التّعيين في إرادة الآمر بان تتعلّق إرادته بأمر معين... و لا ملازمة بين الإرادتين على هذا الوجه...

و الحاصل: ان بعض الخصوصيّات من لوازم الإرادة الفاعليّة، حيث انّ الإرادة الفاعليّة انّما تكون مستتبعة لحركة عضلاته و لا يمكن حركة العضلات نحو المبهم المردّد، و هذا بخلاف إرادة الآمر... فانّه لو كان كلّ من الشّيئين... ممّا يقوم به غرضه الوجداني، فلا بدّ ان تتعلّق إرادته بكلّ واحد لا على وجه التّعيين... بل على وجه البدليّة... فالإرادة في الواجب التّخييري سنخ من الإرادة في قبال الإرادة المشروطة أو الإرادة المطلقة بشيء معيّن.[2]

نظريّة السيّد الخوئي: مسلك «الجامع الانتزاعي (أحدهما)»

وبعد مناقشة رأي المحقّق النائيني، تصل النوبة إلى تمحيص نظريّة تلميذه البارز، السيّد الخوئي (رضوان الله عليه). وقد ولج (قدس سره) البحثَ في كتابه «محاضرات في أصول الفقه» بمنهجيّةٍ مغايرة. والسمةُ البارزة لمنهجه هنا هي «التعبّد بظواهر الأدلّة». حيث يرى أنّ أيّ تفسيرٍ عقليٍّ يُقدّم للواجب التخييري، لا ينبغي أن يُخرجنا عن ظاهر الخطابات الشرعيّة. ولذا اختار نظريّةً تحلّ المعضلات الثبوتيّة من جهة، وتحظى بأقصى درجات الانسجام مع لسان الأدلّة من جهةٍ أخرى. ويمكن تبيين أركان رؤيته ضمن محورين:

١. ماهيّة الواجب: عنوان «أحدهما لا بعينه»

أفاد (قدس سره) في تبيين حقيقة الواجب التخييري: إنّ الواجب هو عين ما يظهر من الأدلّة؛ أي «أحد الفعلين» أو «أحد الأفعال» بنحو «لا بعينه». فوفقاً لهذه الرؤية، لا يكون متعلّق الوجوب ذوات الأشياء الخارجيّة مباشرةً ـ كما ذهب إليه المحقّق النائيني ـ بل المتعلّق هو «عنوانٌ انتزاعيٌّ» و«جامعٌ عنوانيّ» يُعبّر عنه بـ «أحدهما».

٢. عمليّة التطبيق: هيكليّةٌ تُحاكي الواجب التعييني

ولتوضيح المطلب، يعقد مقارنةً بين الواجب التخييري والتعييني:

في الواجب التعييني (كالأمر بالصلاة): يكون متعلّق الوجوب «طبيعة المأمور به» (الجامع الحقيقي). وهذه الطبيعة لها أفرادٌ كثيرةٌ طوليّةٌ وعرضيّةٌ في الخارج. والشارع لم يطلب إلا الطبيعة، مُوكِلاً اختيارَ الفرد وتطبيقَ تلك الطبيعة على المصداق الخارجي إلى «المكلّف».

وفي الواجب التخييري: تجري العمليّة على النحو عينه تماماً؛ غاية الأمر أنّ متعلّق الوجوب ليس «جامعاً حقيقيّاً»، بل «جامعٌ انتزاعيٌّ» (عنوان أحدهما). ولكن بما أنّ هذا العنوان الكلّيّ قابلٌ للانطباق على كلّ واحدٍ من الأطراف، فإنّ تعيين المصداق النهائي وتطبيقه في العالم الخارجي قد أُنيط بكامله بإرادة «المكلّف» واختياره (تطبيقه بيد المكلّف). وقد أفاد في محصّلة نظريّته قائلاً:

الّذي ينبغي ان يقال في هذه المسألة تحفظاً على ظواهر الأدلة، هو ان الواجب أحد الفعلين أو الأفعال لا بعينه، و تطبيقه على كل منهما في الخارج بيد المكلف، كما هو الحال في موارد الواجبات التعيينية، غاية الأمر ان متعلق الوجوب في الواجبات التعيينية الطبيعة المتأصلة و الجامع الحقيقي، و في الواجبات التخييرية الطبيعة المنتزعة و الجامع العنواني.[3]

الدفاعُ عن النظريّة: دفعُ إشكال «عدم واقعيّة العنوان الانتزاعي»

طرح الإشكال: امتناع تعلّق التكليف بالأمر الذهني

أوّل إيرادٍ قد يواجه هذه النظريّة، هو إشكال «المقدوريّة». وحاصل الإشكال: أنّ عنوان «أحدها» مفهومٌ انتزاعيٌّ ذهنيٌّ بحت، لا يتجاوز الذهن والنفس. وهذه المفاهيم لا وجود خارجيّ مستقلّ لها، بل هي قائمةٌ بذهن المتصوِّر. ومن جهةٍ أخرى، فإنّ الشرط العقليّ للتكليف هو «القدرة»، فلا بدّ أن يتعلّق التكليف بأمرٍ مقدورِ الإيجاد للمكلّف في الخارج. فكيف يمكن للمفاهيم الذهنيّة ـ التي هي خارجةٌ عن نال تصرّف المكلّف الخارجي ـ أن تقع متعلّقاً لبعث المولى وتحريكه؟ إذن، فتعلّق التكليف بعنوانٍ لا واقعيّة عينيّة له، لغوٌ ومحال.

جواب السيّد الخوئي: قياسُ الأولويّة والشواهدُ الوقوعيّة

وفي مقام الجواب، يرى السيّد الخوئي أنّ هذا الإشكال ناشئٌ عن الغفلة عن الطبيعة الاعتباريّة للحكم، فيتصدّى للردّ بدليلين (تحليليّ ونقضيّ):

أ) الدليل التحليليّ: قياس الأولويّة من الصفات الحقيقيّة إلى الاعتباريّة

ومحصّلة ما أفاده: إنّا نجد بالوجدان أنّ الصفات النفسانيّة «الحقيقيّة» ـ كالعلم، والشوق، والإرادة ـ تتعلّق بالعناوين الانتزاعيّة والكلّيّة بلا كلفة. فالإنسان قادرٌ على تصوّر مفهوم «أحدهما»، والعلم به، بل وإرادة تحقّقه. وهنا يكمن الاستدلال: فإذا أمكن لصفةٍ تكوينيّةٍ حقيقيّةٍ أن تتعلّق بمثل هذا العنوان، فبالأولويّة القطعيّة يمكن لأمرٍ «اعتباريٍّ محض» (كالحكم الشرعي) أن يُعتبر عليه. فإذا انتفى المانع التكويني، فأيّ مانعٍ يمكن تصوّره في عالم الاعتبار الذي هو أخفّ مؤونةً؟

فما ظنّک بالحکم الشرعيّ الّذي هو أمر اعتباريّ محض؟[4]

ب) الدليل الوقوعي: الاستشهاد بالمسلّمات الفقهيّة والعرفيّة

وخيرُ دليلٍ على إمكان الشيء وقوعه. فقد استشهد (قدس سره) بنظائرَ في أبواب المعاملات، استقرّت فيها الأحكام الوضعيّة على عناوينَ انتزاعيّة. ففي باب البيع، لو قال البائع: «بعتُكَ أحدَهما»، صحّت المعاملة عقلائيّاً وشرعاً. حيث اعتبر الشارعُ «الملكيّة» للعنوان الكلّيّ «أحد المالين»، دون تعيّن العين الخارجيّة حين العقد؛ ويكون التعيين في مرحلة التسليم باختيار البائع. وفي باب الوصيّة، لو أوصى قائلاً: «أحدُ بيوتي لولدي»، نفذت الوصيّة. فما يدخل في ملك الموصى له بعد الموت هو العنوان الكلّي «أحد البيوت»، والتعيين في مقام التنفيذ. فإذا كان تعلّق الاعتبار بالعنوان المبهم والانتزاعيّ «أحدهما» أمراً شائعاً وصحيحاً بالبداهة في الأحكام الوضعيّة (كالملكيّة في البيع والوصيّة)، فلا مانع عقلاً من أن يعتبر الشارع المقدّس الوجوبَ في الأحكام التكليفيّة (الواجب التخييري) على نفس هذا العنوان الكلّي، مُوكِلاً مرحلة التطبيق وتعيين المصداق إلى اختيار المكلّف. وقد أفاد في تلخيص دفاعه قائلاً:

و على الجملة فلا شبهة في صحة تعلق الأمر بالعنوان الانتزاعي و هو عنوان أحدهما، و مجرد انه لا واقع موضوعي له لا يمنع عن تعلقه به، ضرورة ان الأمر لا يتعلق بواقع الشيء، بل بالطبيعي الجامع، و من الواضح جدا انه لا يفرق فيه بين ان يكون متأصلا أو غير متأصل أصلا.[5]

الإشكالُ الثاني: تحدّي «انتفاء الملاك في العنوان الانتزاعي»

طرح الإشكال: ضرورةُ وجود المصلحة في المتعلَّق

يتّجه الإيراد الثاني على نظريّة «وجوب العنوان الانتزاعي»، صوب القاعدة الكلاميّة عند العدليّة القاضية بـ «تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد». وحاصل الإشكال: إنّ الأحكام الشرعيّة ليست جزافيّة، بل تابعةٌ لملاكاتٍ واقعيّة (مصلحة ومفسدة) كامنةٍ في متعلّقاتها. فلا بدّ من وجود مصلحةٍ ملزمةٍ في ذات «متعلّق الحكم» حتّى يتوجّه إليه بعثُ المولى وتحريكه. ولكن، بناءً على مختاركم، فإنّ متعلّق الوجوب هو «عنوانٌ انتزاعيٌّ ذهنيّ» (أحدها). ومن الواضح أنّ المفاهيم الذهنيّة ليست وعاءً لتحقّق المصالح الواقعيّة؛ إذ المصلحة الحقيقيّة (كالنجاة من الجوع أو تزكية النفس) تكمن في «الفعل الخارجيّ» (كالإطعام أو الصوم)، لا في مفهومه الذهنيّ. وعليه، فالالتزام بكون متعلّق الوجوب أمراً ذهنيّاً فاقداً للملاك، يتنافى مع حكمة التشريع.

جوابُ السيّد الخوئي: تحليلٌ ثلاثيُّ الأبعاد

ولرفع هذه الشبهة، شيّد السيّد الخوئي (رضوان الله عليه) استدلالاً يبتني على مقدّماتٍ ثلاث، لإثبات عدم لزوم وجود المصلحة في عنوان المتعلّق ذاته بنحو المباشرة:

المقدّمة الأولى؛ قصورنا عن إدراك سنخ الملاك: أفاد (قدس سره): إنّه لا سبيل لنا إلى الكشف الدقيق عن «سنخ الغرض» وكيفيّة تقرّر الملاك؛ أی «لا طريق لنا إلى معرفة سنخ الغرض الداعي». فالذي يحكم به العقل، هو مجرّد أصل وجود المصلحة في الأوامر والمفسدة في النواهي. أمّا تحديد موطن هذه المصلحة بدقّة؛ هل هي قائمةٌ بنفس الفعل؟ أم في نفس الأمر والامتثال؟ أم في النتيجة المتولّدة عن الفعل؟ فهذه تفاصيلُ خافيةٌ عنّا، ولا ضرورة للعلم بها.

المقدّمة الثانية؛ لزوم التعبّد بظواهر الأدلّة: ومن جهةٍ أخرى، فإنّ وظيفة الأصولي هي التحفّظ على ظواهر النصوص الشرعيّة. وظاهر أدلّة الواجب التخييري (ككلمة «أو») يدلّ على تعلّق الوجوب بنحو الترديد أو الجامع (عنوان «أحدها»). فلا يسوغ لنا رفع اليد عن الظاهر الصريح للدليل، لأجل تحليلٍ عقليٍّ ظنّي (كمسألة المصلحة).

المقدّمة الثالثة؛ إحراز حصول الغرض بالفعل الخارجي: والنقطة المفصليّة هي يقيننا بأنّ المكلّف لو اختار أحد الأطراف وأتى به في مقام العمل، لكان غرض المولى ومصلحته مؤمّنةً قطعاً. وهذا المقدار كافٍ للعقل ليحكم بأنّ إتيان هذا الفعل الخارجي (الذي هو مصداق ذلك العنوان) محقّقٌ لهدف الشارع. وعليه، حتّى لو لم تكن المصلحة كامنةً في العنوان الانتزاعي نفسه، ولكن لمّا كان إتيانه (من قبل المكلّف) سبباً لاستيفاء المصلحة، لم يكن تعلّق الأمر به لغواً.

النتيجةُ والمحصّلة: ومن خلال ضمّ هذه المقدّمات إلى بعضها، يخلص المحقّق الخوئي إلى ضرورة الالتزام بكون متعلّق الوجوب هو العنوان الانتزاعي عينه؛ وذلك لِـ: أوّلاً: اقتضاء ظاهر الدليل لذلك. وثانياً: عدم ورود إشكال الملاك؛ لجهلنا بكيفيّة تقرّره، ولكفاية حصول الغرض بالفعل الخارجي. وثالثاً: أنّ التحليل العرفي للأمر بالجامع يقتضي إلغاء خصوصيّات الأطراف (كخصوصيّة الإطعام أو الصوم) عن الدخالة في الغرض، وتساوي جميع الأطراف في الوفاء به (على نسبةٍ واحدة). وقد ختم كلامه قائلاً:

فالنتيجة على ضوء هذه النواحي هي انه لا بد من الالتزام بان متعلق الوجوب في موارد الواجبات التخييرية هو العنوان الانتزاعي من جهة ظهور الأدلة في ذلك... و على هدى ذلك نعلم ان الغرض الداعي إلى إيجابه قائم به، لفرض انه لا طريق لنا إلى إحرازه ما عداه، كما انا نعلم بحصول هذا الغرض و تحققه في الخارج بإتيانه في ضمن أي من هذين الفعلين أو الأفعال شاء المكلف إتيانه فيه...

و من هنا يظهر ان مرادنا من تعلق الأمر بالجامع الانتزاعي ليس تعلقه به بما هو موجود في النّفس... بل مرادنا من تعلق الأمر به بما هو منطبق على كل واحد من الفعلين أو الأفعال في الخارج، و يكون تطبيقه على ما في الخارج بيد المكلف.[6]

المناقشة في جواب السيّد الخوئي: عدولٌ عن مبنى تبعيّة الأحكام للمصالح

ويبدو أنّ الجواب الذي قدّمه السيّد الخوئي (رضوان الله عليه) إزاء إشكال الملاك، أشبهُ بـ «شطب أصل المسألة» والعدول عن قاعدةٍ كلاميّةٍ منه بـ «الحلّ الفنّي للمسألة». فقد كان جوهر إشكال المستشكل يبتني على القاعدة المُسلّمة عند العدليّة، وهي «تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد في المتعلّقات». ومقتضاها لزوم وجود المصلحة في نفس ما تعلّق به الوجوب (أي المتعلَّق). بيد أنّ المحقّق الخوئي، في مقام الجواب، قد ناقش في أصل هذا المبنى عمليّاً، مفيداً: أنّه لا دليل على لزوم وجود المصلحة في ذات المتعلّق بحدّه ودقّته؛ بل يكفي في صحّة جعل الحكم العلمُ بوجود مصلحةٍ تُستوفى بفعل المكلّف الخارجي. والنتيجة القهريّة لكلامه هذا، هي رفع اليد عن المبنى المشهور في باب تبعيّة الأحكام. حيث التزم بإمكان خلوّ متعلّق الوجوب (العنوان الانتزاعي «أحدها») من المصلحة في حدّ ذاته، مع صحّة الأمر به، شريطة تأمين الغرض النهائي للمولى في الخارج. وهذه الرؤية، وإن رفعت ظاهراً إشكال تعلّق الأمر بالأمر الانتزاعي، إلّا أنّها تتنافى مع المباني الكلاميّة والأصوليّة في باب الملاكات، وتفتح باباً واسعاً للنقاش؛ إذ انفكاك المصلحة عن متعلّق الحكم خلافُ الظاهر الأوّلي للتشريع.

و صلّی اللّه علی محمّد و آله الطّاهرین

----------------------
[1]- ‏نائینی، محمدحسین، «فوائد الاُصول‏»، با محمد علی کاظمی خراسانی، ج 1، ص 235.
[2]- المصدر نفسه.
[3]- ‏خویی، ابوالقاسم، «محاضرات فی أصول الفقه»، با محمد اسحاق فیاض، ج 4، ص 40.
[4]- المصدر نفسه.
[5]- المصدر نفسه.
[6]- المصدر نفسه، 41.

-----------------------
المصادر:
- خویی، ابوالقاسم، محاضرات فی أصول الفقه، محمد اسحاق فیاض، ۵ ج، قم، دارالهادی، 1417.
- نائینی، محمدحسین، فوائد الاُصول‏، محمد علی کاظمی خراسانی، ۴ ج، قم، جماعة المدرسين في الحوزة العلمیة بقم، 1376.


الملصقات :

الواجب التعييني الواجب التخييري الجامع الحقيقي تعدّد الوجوب أحدهما لا بعينه تعدّد الثواب الإرادة الفاعليّة الإرادة الآمريّة العنوان الانتزاعي تبعيّة الأحكام للمصالح وحدة الوجوب

نظری ثبت نشده است .