موضوع: الواجب التعیینی و التخییری
تاریخ جلسه : ١٤٠٤/٩/٨
شماره جلسه : ۳۷
خلاصة الدرس
-
محصّلة البحث المتقدّم
-
تلخيصُ نظريّة المحقّق العراقيّ وبيانُ الثمرة في جانب الثواب
-
المناقشاتُ في نظريّة المحقّق العراقيّ
-
الإشكال الأوّل: امتناع «النقص» في ساحة الاعتباريّات
-
الإشكالُ الثاني: نقدُ مبنى «تعدّد العقاب» وحصرُ المعيار في مخالفة الخطاب
-
دفعُ إشكالٍ مقدّر
-
الإشكالُ الثالث: استنادُ سقوطِ التكليف إلى «ترخيص الشارع» لا «فعل المكلّف»
-
النتيجةُ النهائيّة
-
المصادر
الجلسات الاخرى
بِسمِ اللَّهِ الرَّحمَنِ الرَّحِیم
الحمدللّه ربّ العالمین وصلّی اللّه علی محمّد و آله الطّاهرین
محصّلة البحث المتقدّم
تخصّص البحث السابق لبيان مسلك المحقّق العراقي (قدّس سرّه) في حقيقة الواجب التخييري. حيث ذهب ـ متجاوزاً نظريّة «الواجب الواحد المتعلّق بالعنوان الانتزاعي» ـ إلى القول بانحلال الوجوب وتعدّده بعدد أطراف التخيير. ويكمن جوهر نظريّته في التمييز بين «الوجوب التام» و«الوجوب الناقص»؛ ففي الوجوب الناقص ـ وبخلاف التعييني ـ لا يكون المنع عن الترك مُطلقاً، بل هو مضيّقٌ ومشروطٌ بـ «تركِ أحد الأطراف في حال تركِ سائرِ الأطراف». ويرى المحقّق العراقي شمول هذا التحليل لجميع صور الغرض (وحدةً وتعدّداً)، إلّا أنّه فصّل في مسألة العقاب عند «ترك جميع الأطراف» بين الصور الأربع لتصوير الغرض: ففي فرض وحدة الغرض (الصورة الأولى) أو التضاد في قابليّة الاتّصاف بالمصلحة (الصورة الرابعة)، لا يثبت إلّا عقابٌ واحد؛ لأنّ الفائت في النتيجة هو مصلحةٌ فعليّة واحدة. وأمّا في الصورتين الأُخريين (تعدّد الغرض مع التضاد في المتعلَّق أو التضاد في تحقّق الغرض)، فإنّ ترك جميع الأطراف يوجب تعدّد العقاب؛ إذ المكلّف بسوء اختياره قد حقّق أسباب تفويت أغراضٍ فعليّة متعدّدة. وفي مقام الجواب عن إشكال «عدم القدرة على الجمع» وتأثيره في نفي العقاب المتعدّد، أكّد على التفكيك بين مقام الامتثال ومقام العصيان، معتبراً أنّ العجز عن الجمع لا يمنع من استناد التروك الاختياريّة المتعدّدة للمكلّف. كما جعل المناط في تبيين الفارق بين الصورة الثالثة والرابعة هو «صدق ترك المتّصف بالمصلحة»، حيث لا يصدق هذا العنوان في التضاد الاتّصافي إلّا على أحد التروك، بخلاف التضاد الوجودي حيث يصدق على الجميع.
قبل طيّ صفحة البحث حول المحقّق العراقي (قدّس سرّه)، يجدرُ بنا استعراضُ أركانِ ولوازمِ نظريّته إجمالاً؛ تثبيتاً للصورة النهائيّة لهذا المسلك في الذهن.
١. حقيقة الحكم؛ «الوجوب الناقص»: يتمثّل جوهرُ رؤيته في كون الواجب التخييري مصداقاً لـ «الوجوب الناقص». ويكمن الفارقُ الجوهريّ بين هذا الوجوب والوجوب التامّ في دائرة «المنع عن الترك»: ففي الوجوب التام (التعييني)، يكون المنع عن الترك مطلقاً وشاملاً لجميع حالات عدم الإتيان. وأمّا في الوجوب الناقص (التخييري)، فالمنع عن تركِ طرفٍ مّا مقيّدٌ بحالةِ ترك سائر الأطراف أيضاً (الترك المقرون بترك البقيّة).
٢. شمولُ النظريّة وإطلاقها: تمثّل الركن الثاني في نقد التفصيل الذي ذهب إليه المحقّق الخراساني. فقد صرّح العراقي بسريان ماهيّة «الوجوب الناقص» في جميع أقسام الواجب التخييري (أعمّ من وحدة الغرض وتعدّده)، مؤكّداً أنّ الاختلاف في المبادي الثبوتيّة لا يوجب تغييراً في الماهيّة الاعتباريّة للحكم.
٣. التفصيلُ في العقاب؛ ابتكارُ المحقّق العراقي: فبالرغم من القول بوحدة ماهيّة الحكم، إلّا أنّه التزم بالتفصيل في بحث «العقاب على ترك جميع الأطراف». فاستناداً إلى الصور الأربع للغرض، حكم بـ «تعدّد العقاب» في الموارد التي يكون منشأ التخيير فيها هو التضادّ في الوجود أو التضادّ في المتعلَّق (حيث المصلحة الفعليّة متعدّدة)؛ وهي رؤيةٌ لم تكن معهودةً في كلمات الأصوليّين قبله.
٤. التحليل النهائيّ؛ اختلافُ الملاك في «العقاب» و«الثواب»: والنقطةُ الدقيقة التي ينبغي الالتفاتُ إليها في الختام، هي تباينُ جريانِ هذا المبنى في جانبَي العقاب والثواب. فقد برّر المحقّق العراقي تعدّدَ العقاب بأنّ المكلّف حينما يتركُ جميع الأطراف، وبما أنّه لم يتحقّق امتثالٌ يُسقط التكليف، فإنّ «الوجوب الفعليّ» يظلّ باقياً بالنسبة إلى كلّ واحدٍ من الأطراف؛ فتقع المخالفةُ لوجوباتٍ فعليّةٍ متعدّدة، ممّا يستلزم عقوباتٍ متعدّدة. بيد أنّ هذا الاستدلال ينعكسُ في جانب «الثواب»: فلو أتى المكلّف بأحد الأطراف، فقد تحقّق غرض المولى وسقطت فعليّة وجوب سائر الأطراف (سقوط الوجوب بامتثال أحد الأطراف). وعليه، لو بادر بعد الإتيان بالفرد الأوّل إلى الإتيان بالفرد الثاني، لم يبقَ ثَمّة وجوبٌ فعليٌّ ليتحقّق امتثالُه. إذن، ففي الواجب التخييري ـ حتّى بناءً على مبنى تعدّد الغرض ـ لا يستوجبُ الإتيان بأطرافٍ متعدّدة «تعدّد الثواب» (من باب امتثال الأمر) بالضرورة؛ إلّا أن يُفترض وجودُ ملاكٍ آخر (كالمحبوبيّة الذاتيّة).
على الرغم مما انطوت عليه نظريّة المحقّق العراقي (قدس سره) من دقّةٍ في النظر، إلّا أنّها تواجَه بالنقد من جهاتٍ متعدّدة. ويتوجّه الإشكال الأوّل والأساس إلى النواة المركزيّة لنظريّته، ألا وهي مفهوم «الوجوب الناقص».
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل يُعقل أساساً في عالم الاعتبار، تصويرُ وجوبٍ يجتمع فيه كونه «وجوباً» وكونه «ناقصاً» في آنٍ واحد؟
القياسُ مع الفارق بين التكوين والتشريع: وينشأ هذا الغموض من الخلط بين أحكام الوجود وأحكام الاعتبار. ففي عالم التكوين، يُعدّ مفهوم «النقص» و«التشكيك» أمراً معقولاً ومقبولاً. حيث يرى الفلاسفة أنّ الوجود حقيقةٌ مشكّكة؛ فوجود الحقّ تعالى واجبٌ ومُطلق، بينما وجود ما سواه وجودٌ محدودٌ وناقصٌ تكتنفه «الحدود العدميّة» (كالفقر الذاتيّ، وعدم العلم المطلق، ونحوهما). وهذا النقص ذاتيٌّ للمراتب الوجوديّة الدنيا،[1] وإليه الإشارة بالآية الشريفة: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إلَى اللَّه).[2] وأمّا في عالم الاعتبار، فالأمرُ مختلف. إذ الاعتبارُ فعلٌ نفسانيٌّ للمُعتبر، يدور أمره بين «الوجود والعدم». فالمقنِّن إمّا أن يجعل الحكم أو لا يجعله. و«الوجوب» في عالم التشريع لا يعني سوى «الإلزام» و«المنع من الترك». فمع هذا، كيف يصحّ القول: «إنّي اعتبرتُ الوجوب، ولكن بصورةٍ ناقصة»؟! إنّ هذه القضيّة تبدو متهافتة؛ فالحقيقة المتقوّمة بـ «الإلزام»، إن لم يكن إلزامُها تامّاً، لم تكن وجوباً أصلاً (بل استحباباً أو إباحة)، وإن كان تامّاً، لم تكن «ناقصة». فتصويرُ حالةٍ برزخيّةٍ بينهما يُشبه «اجتماع النقيضين» في وعاء الاعتبار.
الغموض في فعليّة الوجوب الناقص: ويرد إشكالٌ آخر ناظرٌ إلى مسألة «الفعليّة». حيث ذهب المحقّق العراقي إلى أنّه في الواجب التخييري، تصل وجوباتٌ متعدّدةٌ إلى مرحلة الفعليّة، وهي بأجمعها «ناقصة».
وهنا يكمن الغموض: فهذه الوجوبات إمّا أن تكون فعليّةً وإمّا لا. فإن لم تكن فعليّة، فهو خُلف الفرض ومنافٍ للدعوى. وإن كانت فعليّة، فما معنى «النقص» في الوجوب الفعليّ؟ إذ الوجوبُ الفعليّ هو الحكمُ الذي له داعويّةٌ ناجزةٌ تُلزم المكلّف بالانبعاث. فصياغةُ «الإلزام الفعليّ الناقص» تعبيرٌ لا يستقرّ في المرتكزات العرفيّة والعقلائيّة.
مبنى الإمام الخميني (قدس سره)؛ التفكيك بين التكوين والتشريع: وتستند هذه المناقشة إلى المبنى الأصوليّ الدقيق للإمام الخميني (قدّس سرّه)، حيث كان يؤكّد دائماً على ضرورة التفكيك بين القواعد الفلسفيّة والأحكام الاعتباريّة، معتبراً أنّ إسراء قواعد من قبيل «التشكيك في الوجود» أو «بساطة الوجود» إلى حقل الاعتباريّات خطأٌ منهجيّ.[3] والمحقّق العراقي وإن لم يصرّح بالاستدلال الفلسفي، إلّا أنّ الالتزام بـ «وجوبٍ ناقص» في التشريع لا يتمّ إلّا بناءً على القول بالتشكيك في الماهيّات الاعتباريّة، وهو أمرٌ باطل. ولمزيدٍ من التوضيح، يمكن قياس هذا المفهوم في جانب «الحرمة»؛ فهل يُعقل أن يصرّح الشارع: «إنّ هذا الشيء حرام، ولكن حرامٌ ناقص»؟! فالحرمة ـ كالوجوب ـ أمرٌ بسيط؛ فإمّا أن تُجعل الممنوعيّة أو لا تُجعل. والالتزام بمثل هذه التقسيمات يوجب اختلال نظام الأحكام الخمسة، ويُلجئنا إلى القول بأحكامٍ متعدّدة (كالوجوب التام، والوجوب الناقص، والحرمة التامّة، والحرمة الناقصة، وما شابه)، وبطلانُ ذلك في الفقه بديهيّ. وعليه، فإنّ مصطلح «الوجوب الناقص» في وعاء الاعتبار، فاقدٌ للمحصَّل الفنّي والتصوّر الصحيح.
وتتوجّه المناقشةُ الأساسيّةُ الثانية على كلمات المحقّق العراقي، صوبَ ما تفرّد باستنتاجه في باب «تعدّد العقاب» ضمن صور التزاحم وتعدّد الغرض.
نقطةُ الوفاق؛ ردُّ التفصيل الثبوتيّ للآخوند: وقبل الولوج في أصل الإشكال، يلزم التنويه إلى أنّنا نوافقه الرأي في الشقّ الأوّل من التحليل (أي نقد رؤية المحقّق الخراساني). حيث ذهب الآخوند إلى أنّ التخيير في فرض وحدة الغرض عقليّ، ولا يتحقّق التخيير الشرعيّ إلا في صورة تعدّد الأغراض. بيد أنّ المحقّق العراقي أدرك ـ بحقٍّ ـ أنّه لا فرق في تحليل ماهيّة الواجب التخييري بين وحدة الغرض وتعدّده، وأنّ هيكليّة الحكم فيهما واحدة (وهو ما سيأتي توضيحه في تبيين نظريّة الإمام الخميني قدس سره، من أنّ بحث الواجب التخييري لا يرتبط أساساً بمسألة الغرض، بل يدور مدار كيفيّة الجعل).
نقطة الخلاف؛ الإشكال في مبنى «تعدّد العقاب»: وأمّا منطلق الاختلاف فيكمن في حكمه بـ «تعدّد العقاب» في الصورتين الثانية والثالثة (التضادّ في المتعلَّق أو التضادّ في تحقّق الغرض). وهذا الحكم مخدوشٌ من جهتين:
أوّلاً: إنّ وحدة العقاب في فرض ترك جميع أطراف الواجب التخييري، أمرٌ ارتكازيٌّ ومقبولٌ لدى كافّة العقلاء والمتشرّعة. فالعرفُ حينما يواجه مَن ترك خصال الكفّارة، لا يراه مستحقّاً إلا لعقوبةٍ واحدة، لا لثلاث؛ وإثباتُ ما يخالف هذا الارتكاز الراسخ يفتقر إلى دليلٍ قاطع.
ثانياً (الإشكال المبنائيّ): إنّ استدلال المحقّق العراقي على تعدّد العقاب يرتكز على كبرى مفادها أنّ «موضوع العقاب ومعياره هو تفويت غرض المولى». فلو سلّمنا بهذه الكبرى، لاتّجه ما ذهب إليه من أنّ تعدّد الغرض الفعلي يوجب تعدّد العقاب؛ ولكنّ هذا المبنى غير تامٍّ عندنا أساساً. والتحقيق يقتضي أنّ المحور في باب الطاعة والمعصية هو «الخطاب» و«التكليف»، لا «الغرض». فمع العلم بأنّ المولى حكيمٌ وله أغراضٌ قطعاً، إلّا أنّ هذه الأغراض لا تكون هي المناط المباشر لتقدير العقوبة. والشاهد على ذلك: أنّه لو وجّه المولى خطاباً واحداً يتكفّل امتثالُه استيفاءَ خمسة أغراض، فخالفه المكلّف، فهل يلتزم فقيهٌ باستحقاقه لخمس عقوبات؟! كلا بلا ريب. إذ مخالفة الخطاب الواحد لا تستتبع إلّا عقاباً واحداً، سواء انبثق ذلك الخطاب عن غرض واحد أو مائة غرض. وعليه، فالمعيار في الثواب والعقاب يدور مدار الموافقة والمخالفة لـ «الأمر والنهي»، لا الملاكات والأغراض الكامنة وراء الأحكام.
قد يُقال في مقام الدفاع عن المحقّق العراقي: إنّه حتّى لو جُعل المعيارُ «مخالفةَ الخطاب»، فإنّ تعدّد العقاب يثبت أيضاً وفقاً لمبناه الخاص (القائل بانحلال الوجوب وتعدّد الوجوبات الفعليّة)؛ إذ قد تحقّقت المخالفةُ في المقام لخطاباتٍ ووجوباتٍ متعدّدة عملاً.
والجواب: إنّ هذا الدفاع غير تامٍّ أيضاً؛ لوجود اختلافٍ مبنائيٍّ معه في نفس المقدّمة (أي تصوير الوجوبات المتعدّدة المستقلّة). فإنّا لا نرى ثبوتَ خطاباتٍ متعدّدةٍ مستقلّةٍ على نحو «الوجوب الناقص»؛ بل نذهب إلى وجود خطابٍ واحدٍ عُيّن متعلّقه على نحو «البدليّة». نعم، قد يُمكن تحليل الوجوب بحيث يشمل أطرافاً متعدّدة، ولكن لا بصورة وجوباتٍ مستقلّةٍ يكون لكلٍّ منها موضوعيّة، بل بصورة «وجوبٍ على سبيل البدليّة». وهذا «الوجوب البدليّ» يباين الوجوب التعيينيّ ماهويّاً. فالوجوب التعيينيّ له موضوعيّةٌ مستقلّةٌ للعقاب؛ أمّا الوجوب المتقوّم بالبدليّة والتبادل، فمرجعُه في فرض ترك الجميع عرفاً إلى مخالفةٍ جامعةٍ واحدة، ولا يصلح منشأً لعقوباتٍ مستقلّةٍ ومتعدّدة. وبناءً عليه، فحتى مع التنزّل عن إشكال الغرض، فإنّ الهيكليّة الاعتباريّة للواجب التخييري (البدليّة) لا تقتضي تعدّد العقاب.
وتتّجه المناقشةُ الفنّيّة الثالثة والأخيرة على كلام المحقّق العراقي، صوبَ التحليل الذي قدّمه في مقام الجواب عن الإشكال المقدّر. حيث أفاد في تبيين العلاقة بين أطراف التخيير: «إنّ إتيانَ أحدِ الأطراف يوجب إخراجَ البقيّة عن حيّز الوجوب الفعليّ».
تحليل ماهيّة السببيّة: والسؤال الذي يرد هنا: ما هي حقيقة هذه «الموجبيّة» و«السببيّة»؟ هل إنّ ذات «الفعل الخارجيّ للمكلّف» هو السبب في سقوط التكليف عن ماهيّةٍ أخرى، أم أنّ العامل الرئيس هو «ترخيص الشارع»؟ والتحقيق يقتضي القول بعدم تماميّة استناد سقوط الوجوب إلى «فعل المكلّف» (بما هو فعل)؛ وذلك لانتفاء أيّ ملازمةٍ عقليّةٍ أو رابطةٍ علّيّة تكوينيّة بين تحقّق فعلٍ خارجيّ (كعتق الرقبة مثلاً) وبين سقوط الوجوب عن ماهيّةٍ مباينةٍ أخرى (كإطعام ستّين مسكيناً). فإنّ فعل المكلّف مجرّداً، قاصرٌ عن التصرّف في عالم الاعتبار والأحكام.
الدورُ المحوريّ لجعلِ الشارع: إنّ ما يوجب حقيقةً سقوطَ التكليف عن سائر الأطراف هو «حكم الشارع وترخيصه». فالشارعُ المقدّس هو الذي قرّر في مقام الجعل والتشريع: «إن أتيتَ بأحد الأطراف، فأنتَ مأذونٌ ومرخّصٌ في ترك الباقي». وعليه، فسقوطُ وجوب البقيّة يستند إلى «الإذن المسبق» و«الجعل البدليّ» من قِبَل الشارع، لا إلى التأثير المباشر للفعل الخارجيّ للمكلّف. ففعل المكلّف لا يعدو كونه «موضوعاً» أو «شرطاً» لتحقّق هذا الترخيص، لا «علّةً تامّة» له. ومن هنا، فإنّ تعبير المحقّق العراقي ـ الذي جعل فعل المكلّف مستقلاً «مُخرجاً للبقيّة عن حيّز الوجوب» ومُسقطاً للتكليف ـ لا يخلو من مسامحةٍ عند التدقيق الأصوليّ.
وبعد الاستقصاء الشامل لنظريّة «الوجوب الناقص» للمحقّق العراقي (قدّس سرّه)، تبيّن أنّ هذه الرؤية ـ رغم ما انطوت عليه من دقّةٍ وابتكار ـ تواجِهُ تحدّياتٍ ثبوتيّةً وإثباتيّةً جادّة؛ لابتنائها على مفاهيمَ من قبيل «النقص في الاعتبار» و«تعدّد العقاب في التخيير». وبناءً عليه، فإنّها قاصرةٌ عن تقديم تفسيرٍ جامعٍ ومتقنٍ لحقيقة الواجب التخييري.
و صلّی اللّه علی محمّد و آله الطّاهرین
-----------------------
[1]- أنظر: الشیرازی، صدرالدین محمد بن ابراهیم، «الحکمة المتعالیة فی الأسفار العقلیّة الأربعة»، ج 1، ص 35؛ طباطبایی، سید محمد حسین، «نهایة الحکمة»، با غلامرضا فیاضی، ج 4، ص 1048-1049.[2]- الفاطر: 15.
[3]- وقد صرّح (قدس سرّه) في مواردَ مختلفة، كما في بحث الشرط المتأخّر (خمینی، روح الله، «مناهج الوصول إلى علم الأصول»، ج 1، ص 343.) أو في المباحث الفقهيّة كالخيارات، بأنّ الأحكام الشرعيّة ليس لها وجودٌ خارجيٌّ عارضٌ على الموضوعات (كالاعراض المقوليّة) لتجري عليها أحكام التضادّ والتماثل الفلسفيّة؛ بل هي أمورٌ اعتباريّةٌ تابعةٌ للجعل والمصلحة. وله في «كتاب البيع» بيانٌ في مقام نقد التوهّمات العقليّة حول اجتماع الأسباب، ينصّ فيه على هذا التفكيك بدقّة، حيث قال:
«أنّ توهّم تلك المحذورات العقليّة، ناشئٌ من قياس التشريع والأمور الاعتباريّة بالتكوين، وقياس الأحكام بالأعراض المقوليّة... مع أنّه قياسٌ باطل؛ إذ ليس للأحكام وجودٌ خارجي، عارضٌ على الموضوعات عروض الأعراض عليها... فلا ضدّيّة ولا تماثل بينها، نحو ما بين الأعراض الخارجيّة...». (خمینی، روح الله، «کتاب البیع»، ج 4، ص 281.)
المصادر:
- الشیرازی، صدرالدین محمد بن ابراهیم، الحکمة المتعالیة فی الأسفار العقلیّة الأربعة، ۹ ج، بیروت، دار إحیاء التراث، 1981.
- خمینی، روح الله، کتاب البیع، تهران، مؤسسة تنظیم و نشر آثار الإمام الخمینی، 1379.
- ———، مناهج الوصول إلى علم الأصول، قم، موسسه تنظيم و نشر آثار امام خميني( ره)، 1415.
- طباطبایی، سید محمد حسین، نهایة الحکمة، غلامرضا فیاضی، ۴ ج، قم، انتشارات مؤسسه آموزشی و پژوهشی امام خمینی، 1382.
نظری ثبت نشده است .